خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 13 من المحرم 1446 هـ - الموافق 19 / 7 / 2024م
عِظَاتٌ وَعِبَرٌ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ
الْحَمْدُ لِلَّهِ مُقَلِّبِ الْأَيَّامِ وَالْأَعْوَامِ وَالشُّهُورِ، وَمُصَرِّفِ الرِّيَاحِ وَالْفُصُولِ وَالسَّحَابِ وَمُدَبِّرِ الْأُمُورِ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ شَهَادَةً تُبَلِّغُ قَائِلَهَا دَارَ النَّعِيمِ وَالْإِكْرَامِ وَالْحُبُورِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ، الدَّاعِي إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَالسُّرُورِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَأُوصِيكُمْ - عِبَادَ اللهِ - وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ الْعَظِيمِ؛ فَإِنَّهُ مَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ، وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا، ) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ( [الأحزاب: 70- 71].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
إِنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الْبَيِّنَاتِ، وَدَلَائِلِ قُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ الْبَاهِرَاتِ: تَقْلِيبَ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ وَاخْتِلَافَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ]إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ[ [البقرة:164]. وَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ لِمَصَالِحِ الْبَدَنِ، فَإِنَّهُ جَعَلَ الْحَرَّ لِتَحَلُّلِ الْأَخْلَاطِ، وَقَتْلِ بَعْضِ الْجَرَاثِيمِ، وَهُوَ فُرْصَةٌ لِلْجِسْمِ لِلتَّخَلُّصِ مِنَ السُّمُومِ الْمُتَرَاكِمَةِ فِيهِ مِنْ خِلَالِ التَّعَرُّقِ، وَإِنْقَاصِ الْوَزْنِ، وَاكْتِسَابِ فِيتَامِينِ د، وَغَيْرِهَا مِنَ الْفَوَائِدِ. وَكَذَلِكَ جَعَلَ الْبَرْدَ لِجُمُودِ تِلْكَ الْأَخْلَاطِ. فَيَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَلَّا يُفْرِطَ فِي التَّوَقِّي، بَلْ يَتَعَرَّضُ فِي الْحَرِّ لِمَا يُحَلِّلُ بَعْضَ تِلْكَ الْأَخْلَاطِ إِلَى حَدٍّ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْقُوَّةِ، وَيَتَعَرَّضُ لِلْبَرْدِ بِالْقَدْرِ الَّذِي لَا يُؤْذِي بَدَنَهُ وَنَفْسَهُ.
عِبَادَ اللهِ:
لَقَدْ سَخَّرَ اللَّهُ تَعَالَى مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لِلْإِنْسَانِ، وَهُوَ خَاضِعٌ لِسُنَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَمِنْ ذَلِكَ: خُضُوعُهُ وَتَأَثُّرُهُ بِتَقَلُّبِ الْفُصُولِ وَالْأَزْمَانِ، يُؤْذِيهِ حَرُّ الصَّيْفِ وَبَرْدُ الشِّتَاءِ، وَيَسْتَهْوِيهِ اعْتِدَالُ الرَّبِيعِ وَلُطْفُ الْهَوَاءِ، وَالْإِنْسَانُ بِطَبْعِهِ مَلُولٌ، لَا يَكَادُ يَرْضَى بِحَالٍ، وَلَا يَهْدَأُ لَهُ فِي الدُّنَى بَالٌ، إِذَا جَاءَ الصَّيْفُ تَذَكَّرَ الشِّتَاءَ وَتَمَنَّاهُ، وَإِذَا دَخَلَ الشِّتَاءُ أَنْكَرَهُ وَأَبْدَى تَبَرُّمَهُ وَعَدَمَ رِضَاهُ، وَإِذَا عَمِلَ عَمَلًا لَا يَلْبَثُ أَنْ يَمَلَّهُ وَيُظْهِرَ شَكْوَاهُ ؛ وَلِهَذَا قَلَّبَ اللَّهُ الْفُصُولَ وَنَوَّعَ الْأَعْمَالَ وَالْعِبَادَاتِ ؛ لِئَلَّا تُصَابَ النُّفُوسُ بِالْمَلَلِ وَالسَّآمَةِ، وَلِتَنَالَ عَلَيْهَا مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْأَجْرِ وَالْكَرَامَةِ؛ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: (كَانَ عَبْدُ اللَّهِ -أَيِ ابْنُ مَسْعُودٍ t- يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ؟ قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ r يَتَخَوَّلُنَا بِهَا، مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا) [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ]. وَالْمُؤْمِنُ الْكَيِّسُ: هُوَ الَّذِي يَغْتَنِمُ الصَّيْفَ وَيُرَوِّضِهُ بِالْأَنْشِطَةِ الْمَاتِعَةِ وَالْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ، وَيَسْتَثْمِرُ الشِّتَاءَ وَيَمْلَؤُهُ بِالتِّجَارَاتِ الرَّابِحَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَلَا يَكْتَرِثُ بَحَرِّ الصَّيْفِ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ قَرُّ الشِّتَاءِ، وَقَدْ كَانَ أَبُو ذَرٍّ t يَقُولُ لِلْنَاسِ: (حُجُّوا حَجَّةً لِعِظَامِ الْأُمُورِ، صُومُوا يَوْمًا شَدِيدًا حَرُّهُ لِطُولِ النُّشُورِ، صَلُّوا رَكْعَتَيْنِ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ لِوَحْشَةِ الْقُبُورِ) [أَخْرَجَهُ أَبُو نَعِيمٍ فِي حِلْيَةِ الْأَوْلِيَاءِ].
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:
وَإِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ هِيَ مَصْدَرَ الضِّيَاءِ وَالْحَرَارَةِ؛ فَإِنَّ فِيهَا عِبْرَةً وَآيَةً، وَأَيُّ عِبْرَةٍ وَآيَةٍ! فَهِيَ عَلَى عِظَمِ خَلْقِهَا وَضَخَامَتِهَا، وَشِدَّةِ لَهِيبِهَا وَحَرَارَتِهَا: تَسْجُدُ كُلَّ يَوْمٍ تَحْتَ عَرْشِ الرَّحْمَنِ، وَلَا تُشْرِقُ وَلَا تَغْرُبُ إِلَّا بِاسْتِئْذَانٍ، فَحَرِيٌّ بِالْإِنْسَانِ الَّذِي شَرَّفَهُ اللَّهُ بِالشَّرَائِعِ، وَكَرَّمَهُ بِالْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ وَخَلِيقِ الطَّبَائِعِ؛ أَنْ يَكُونَ أَطْوَعَ لِلَّهِ، وَأَكْثَرَ إِجْلَالًا وَتَعْظِيمًا لِمَوْلَاهُ؛ عَنْ أَبِي ذَرٍّ t قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ r لَهُ حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ: «أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ؟»، قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَسْتَأْذِنَ فَيُؤْذَنَ لَهَا، وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ، فَلاَ يُقْبَلَ مِنْهَا، وَتَسْتَأْذِنَ فَلاَ يُؤْذَنَ لَهَا، يُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ]وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ[ [يس:38]» [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ].
عِبَادَ اللهِ:
إِنَّ حَرَارَةَ الصَّيْفِ الْمُسْتَعِرَةَ لَا بُدَّ أَنْ تُذَكِّرَنَا بَحَرِّ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ حَرَّ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ حَرِّ الشَّمْسِ فِي الدُّنْيَا؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ النَّبِيَّ r قَالَ: «نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ» قَالُوا: وَاللهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا» [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ]. وَعَنْهُ t عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ: «إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ». وَاشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ، أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ. [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ].
كَفَانِي اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ فِي الدُّنْيَا حَرَّ الدِّيَارِ، وَوَقَانَا فِي الْآخِرَةِ حَرَّ النَّارِ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ، وَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ سِوَاهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةً تُبَلِّغُ قَائِلَهَا مُبْتَغَاهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَمُصْطَفَاهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالَاهُ.
أَمَّا بَعْدَ:
فَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، وَاسْتَعِينُوا عَلَى طَاعَتِهِ بِمَا رَزَقَكُمْ، ]وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ[ [الطلاق:2-3].
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ:
إِذَا كُنَّا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَتَّقِيَ حَرَّ الصَّيْفِ فِي الدُّنْيَا بِمَا يَسَّرَ اللَّهُ لَنَا مِنْ سُبُلٍ وَاقِيَةٍ، وَبِمَا هَيَّأَ لَنَا مِنْ وَسَائِلَ وَأَجْهِزَةٍ كَافِيَةٍ؛ فَسَوْفَ يَأْتِي يَوْمٌ حَرُّهُ شَدِيدٌ، وَهَوْلُهُ عَظِيمٌ وَكَرْبُهُ جَسِيمٌ وَأَمَدُهُ بَعِيدٌ، يَوْمٌ يَفِرُّ فِيهِ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، وَلَا مَلْجَأَ يَوْمئِذٍ إِلَّا إِلَى اللَّهِ، وَلَا مَنْجَى مِنْهُ إِلَّا لِمَنْ عَمِلَ بِطَاعَتِهِ وَرِضَاهُ؛ عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ t قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُ: «تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ». قَالَ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ: فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا يَعْنِي بِالْمِيلِ أَمَسَافَةَ الْأَرْضِ أَمِ الْمِيلَ الَّذِي تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ؟.
قَالَ: «فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا». قَالَ: وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ r بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ. [أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ]. فَمَنْ أَرَادَ وَارِفَ الظِّلَالِ وَرَاحَةَ الْبَالِ؛ فَعَلَيْهِ بِرَابِحِ التِّجَارَاتِ وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُظِلُّ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ؛ أَصْنَافًا مِنْ عُبَّادِهِ وَفِئَامًا مِنْ عِبَادِهِ؛ حِينَ يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الْأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ، أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
وَمِمَّا يُتَّقَى بِهِ النَّارُ : الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ، وَسَائِرُ الْقُرُبَاتِ، وَنَوَافِلُ الطَّاعَاتِ، وَذَلِكَ فِي قَبْرِهِ وَيَوْمَ بَعْثِهِ وَنَشْرِهِ؛ فَعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ t قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ r: «اتَّقُوا النَّارَ» ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ، ثُمَّ قَالَ: «اتَّقُوا النَّارَ» ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ ثَلَاثًا، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ]. فَيَنْبَغِي عَلَى الْمُسْلِمِ: أَنْ يَحْرِصَ عَلَى أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ مِنَ النَّارِ وَيُعِينَ غَيْرَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَرْحَمَ مَنْ سِوَاهُ مِنْ خَادِمٍ وَعَامِلٍ وَبَهِيمَةٍ؛ رَجَاءَ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ وَأَهْوَالِهَا؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ: «إِنَّ الْمَيِّتَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ إِنَّهُ يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا، كَانَتِ الصَّلَاةُ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَكَانَ الصِّيَامُ عَنْ يَمِينِهِ، وَكَانَتِ الزَّكَاةُ عَنْ شِمَالِهِ، وَكَانَ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، فَيُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، فَتَقُولُ الصَّلَاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَمِينِهِ، فَيَقُولُ الصِّيَامُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَسَارِهِ، فَتَقُولُ الزَّكَاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ، فَتَقُولُ فَعَلُ الْخَيْرَاتِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ...» [أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ].
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، اللَّهُمَّ قِنَا عَذَابَ النَّارِ يَا عَزِيزُ يَا غَفَّارُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِينَا وَلِلْمُسْلِمِينَ؛ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّـتِـينَ، وَاشْفِ مَرْضَانَا وَمَرْضَى الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُوَحِّدِينَ، وَاصْرِفْ عَنَّا كُلَّ شَرٍّ وَسُوءٍ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ. اللَّهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وَوُلَاةَ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ الَّتِي تَدُلُّهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وَتُعِينُهُمْ عَلَيْهِ، وَاجْمَعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَالتَّقْوَى، وَانْفَعْ بِهِمُ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، اللَّهُمَّ وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً مُطْمَئِنًّا، سَخَاءً رَخَاءً، دَارَ عَدْلٍ وَإِيمَانٍ، وَأَمْنٍ وَأَمَانٍ، وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
لجنة إعداد الخطبة النموذجية لصلاة الجمعة